الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: فإن الإصلاح مطلب عظيم كل يتمناه وكل يطلبه لكن بماذا يتحقق الإصلاح؟ هنا تختلف الوسائل وتتنوع النتائج فكثير من الناس يظن أن أسباب الإصلاح هي إعطاء الناس ما يشتهون في هذه الحياة وهو ما يسمونه الديمقراطية؛ أي أن الشعب يحكم نفسه بنفسه ولا يُحكم فيه بشرع الله الذي خلقه ويعلم مصالحه، بل كل وميوله وما يهواه.
وهذا في الواقع لا يحقق إصلاحاً لأن أهواء الناس تختلف ورغباتهم تتنوع، بل إن النتيجة من وراء ذلك هي الفساد؛ قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} (71 سورة المؤمنون)؛ ولذلك لم يكل الله الناس إلى أهوائهم ورغباتهم بل رسم لهم طريقاً يسيرون عليه في حياتهم وهو ما أرسل به رسله وأنزل به كتبه؛ فكل شريعة سماوية اتباعها والعمل بها في وقتها إصلاح ما لم تنسخ إلى أن جاءت شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فنسخت ما سبقها من الشرائع وتضمنت صالح البشرية إلى أن تقوم الساعة؛ فلا صلاح ولا إصلاح إلا باتباع هذه الشريعة والتحاكم إليها. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (59 سورة النساء). وسمّى الله اتباع شرعه إصلاحا ومخالفة شرعه إفساداً قال تعالى: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} (85 سورة الأعراف)؛ فإصلاحها باتباع شرعه وإفسادها بمخالفة شرعه؛ فالله أصلح الأرض بإرسال الرسل وإنزال الكتب فإذا قام الناس باتباع الرسل وعملوا بكتب الله صلحت أرضهم وإذا كانوا بخلاف ذلك أفسدوا في الأرض وإن كانوا يزعمون أنهم يصلحون فيها كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} (11 و12 سورة البقرة). والإصلاح المتمثل باتباع شرع الله ضمان من الهلاك كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (117 سورة هود). والإصلاح في الأرض إنما يتحقق بتحكيم شرع الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإقامة الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (40 و41 سورة الحج). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (.. ولحدّ يقام في الأرض خير لها من أن تمطر أربعين صباحاً) وهذا هو إصلاح الأرض وإصلاح أهل الأرض وما خالفه فهو تدمير للأرض ومن عليها وإن ادعى أصحابه أنه تعمير وإصلاح؛ فهذا من تسمية الأشياء بأضدادها ومن غش الخلق. وما أشبه الليلة بالبارحة؛ فمنافقو اليوم مثل إخوانهم من منافقي الأمس ينادون بالإصلاح ويدعون أن الإصلاح باتباع أنظمة الكفر وتعطيل الشرع ولكن {وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (32 سورة التوبة). وكما قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس - رحمه الله -: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها). وكان الناس قبل هذه الشريعة في ضلال مبين. قال الله تعالى: {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (26 سورة الأنفال). ربما يقول قائل: هل نترك كل ما عند الكفار؟ فنقول له: ما عند الكفار من المنافع الدنيوية من المصنوعات والمنتوجات والخبرات النافعة قد أباح الله لنا أخذه منهم والانتفاع به بعد أن نشتريه بأموالنا، وهذا في الأصل خلقه الله لنا؛ قال تعالى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (32 سورة الأعراف)، إنما الممنوع أن تستورد منهم الأنظمة المخالفة لديننا وعقيدتنا ونتخلى عما أعطانا الله من شرعه المطهر ودينه القيم فنخسر الخسران المبين. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.