قال الله تعالى:
(ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) (الروم 21)
يعود الزوج إلى منزله منهكاً متعباً قد أعيته متاعب الحياة ومتطلباتها فتقابله الزوجة بوجه شاحب عابس يشكو هموم الأولاد ومسؤوليات المنزل.. متذمرة من غياب زوجها الطويل عن المنزل.. ومن رغبات لم تحقق، فلا يجد الزوج عندئذ بداً من أمرين: إما أن يصب عليها وابل همومه ومتاعبه في صورة غضب يهز كيانها ويقضي على أنسهما وسعادتهما الزوجية لتنقلب الحياة بعده صحراء جرداء لا أنيس فيها ولا جليس، ويعيش كل من الزوجين في أقصى نقطة من الخط منعزلاً عن صاحبه أياماً بل أحياناً شهوراً وربما أعواماً لا يلتقيان بعدها أبداً!! وإما أن يتمالك نفسه ويلتمس لها العذر وينسحب بكل هدوء إلى مخدعه مستسلماً لنوم عميق.. وتبقى الزوجة تعاني الحسرة والهم والشعور بالتعاسة!!
وفي المقابل صورة الزوجة وهي تتكبد رعاية الأسرة ومسؤوليات الزوج وربما تعاني من حمل قد أثقل كاهلها وحملته كرهاً على كره.. وقد يكون مع ذلك عمل خارج المنزل قد أخذ الكثير من جهدها ونشاطها.. فيقابلها الزوج كل يوم بضيف جديد وكل أسبوع بدعوة ووليمة فلا تنتهي من واحدة حتى تعد لأخرى وهو في الوقت نفسه لا يتنازل عن أبسط حقوقه ولو كان تلميعاً لحذائه أو وقت تقديم شاي المساء أو الصباح.. ومن هنا ترفع الزوجة صوتها صارخة بالرفض لهذا الحال.. فتشتعل نار الخلاف ويؤججها إبليس بخيله ورجله حتى تكون نهايتها أموراً لا تحمد عقباها وانهياراً لصرح كيان الزوجية وتشتيت الأولاد وتفريقاً بين زوجين متحابين.
إذاً من المسؤول عن كل ما حصل في الصورتين.. الزوج.. أم الزوجة؟!
لا شك أن كلاً من الزوجين يتحمل جزءاً من المسؤولية، وله دور لابد أن يعيه في مثل هذه القضايا التي لا يمكن تصويرها في قضية ظاهرية وموقف بسيط. بل هي قضية عميقة تحتاج إلى فهم وبصيرة في كل مشكلة تمر بها الحياة، بل هناك بلسم مفقود في حياتنا يمكن أن يكون قاعدة عظيمة مندرج تحته حل الكثير من مشكلات حياتنا الزوجية، وفي نظري القاصر أنه لو فهم بشكل صحيح وأصبح قاعدة نسير عليها لكان بعد توفيق الله سبباً في حل كثير من الخلافات التي هدمت الكثير من بيوت الزوجية.
وإن كثيراً ممن يتصدون للكتابة في إصلاح مشاكل الزواج يغفلون عن هذه القضية الهامة وهي ((البلسم المفقود)) بلسم التفاهم وتقدير الظروف ومراعاة الأحوال لتصل السفينة إلى بر الأمان وتمتلئ بالحب والحنان.
إن الزوج يمر بظروف كثيرة لابد أن تراعيها الزوجة وتقدرها ولو على حساب حقوقها. وكذلك الزوجة.. فليست الحياة الزوجية ثكنة عسكرية لابد لكل فرد فيها أن يؤدي ما عليه بكل دقة ودون تأخير، بل هي مودة ومحبة وأنس ورحمة وهي آية من آيات الله، قال تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الروم: الآية 21.
ومن أمثلة ذلك في حياتنا:
- تقدير ظروف الزوج: إن كان داعية أو طالب علم يصرف الكثير من وقته وجهده في دعوة الناس وإصلاحهم.. أو يصرف جل وقته في طلب علم شرعي يتقرب فيه إلى الله ويدعو الناس على بصيرة.. وهنا يتضاعف دور الزوجة لتسد كثيراً من النقص الذي يتركه غياب الأب، ولابد أن تتحمل ذلك بصبر واحتساب ولا تقارن حالها بحال أختها التي لها زوج متفرغ لمسؤولياتهم ومتطلباتهم.. ولتنتظر عظيم الأجر ورفعة المنزلة عند الله في تهيئة الجو والمكان لزوجها وتتذكر الدور العظيم الذي قامت به خديجة – رضي الله عنها- في إعانة الرسول صلى الله عليه وسلم في تحمل أعباء الرسالة وكيف كانت تحمل إليه الطعام هو يتعبد ويتحنث الليالي ذوات العدد في غار حراء.
وفي المقابل يقدر الزوج هذه التضحية والصبر لهذه الزوجة ويعطيها فرصة من الوقت ويفرغ نفسه للجلوس معهم ومؤانستهم فهذا يعوض الكثير من الوقت الذي تركهم فيه.
- ومنها تقدير ظروف الأهل: إن كان للزوج أهل، خصوصاً الوالدين، فقد يكونون بحاجة إلى عونه ومساعدته وجلوسه معهم، فهنا ينبغي على الزوجة أن تكون ابنة محبة لهم تسعى لراحتهم وتعين الزوج على برهم وصلتهم وتلتمس العذر.
وبالمقابل ينبغي على الزوج أن يراعي حقوق زوجته ويقدر تنازلاتها ويخصها بمزيد من اهتمامه وقت راحته وفسحته.. ويسمعها شيئاً من الثناء على إعانتها له على بر والديه وأخوته.
ومنها تقدير ظروف العمل: فبعض الأزواج يكدح ويسعى ليلاً ونهاراً لجمع المال وتوفير الحياة الكريمة لأسرته، ولاشك أن هذا السعي سيأخذ الجهد والطاقة، ولابد من مراعاة الزوجة لذلك وتعد نفسها لتخفف عنه أعباء الحياة، فيجد عندها بلسماً للجراح والصخب والنصب الذي واجهه طول اليوم.. ولتؤجل الحديث عن المشاكل والهموم لوقت آخر مناسب.
وفي المقابل ينبغي على الزوج أن يجعل نصب عينيه أن أولاده أهم من المال فلا يجعله كل همه.. ويضحي بما دونه.. فتجده يجمع ثروة عظيمة على حساب راحته وتربية أولاده الذين تمر الأيام لم يروه ولم يجالسوه!! وربما أسلم العنان لوسائل الإفساد لتربي أولاده فملأ منزله بها.
ومنها تقدير الظروف المالية التي يمر بها الزوج: فقد يكون مديوناً أو قليل ذات اليد ومع ذلك تصر الزوجة على كماليات ومظاهر ترهق كاهله وتزيد من همه بدلاً من مساعدته والوقوف معه في كربته.
وفي المقابل ينبغي أن يكون الزوج كريماً جواداً.. فلا أقبح من صفة البخل يتصف بها الرجل.
وفي الجانب الآخر هناك ظروف تمر بها الزوجة لابد من مراعاتها من قبل الزوج ومن الأمثلة:
- مرض الزوجة: فالحياة لا تدوم على حال وربما يصاب أحد الزوجين بمرض عضال قد يجعله طريح الفراش، ومن هنا ينكشف زيف الدعاوي.. وتنجلي حقيقة الوفاء والتضحية.
والزوجة في مرضها تتلمس يد الزوج الحانية للتخفيف من معاناتها.. فنجد بعضاً من الأزواج يهجر المنزل ويتركها تعاني مع الأولاد.. وهناك من يصر على طلباته ويغضب لعدم تنفيذها مع علمه بمرضها.. وربما أسمعها غليظ القول وهجرها وهذا من سوء الخلق وسيئ العشرة.
ومنها تقدير وقت الزوجة الداعية وطالبة العلم: وهي فئة قليلة من النساء.. وكثير منهن يخبو نشاطها ويفتر عملها بعد الزواج.. والسبب يكمن غالباً وراء لزوج الذي لم تجد منه المرأة معيناً لها على الاستمرار ووجدته قيداً لها عن الانطلاق مع شدة الحاجة لجهودها ودعوتها.. فآثرت الجلوس وربما وجدت طعم الراحة فأخلدت إليها.
ومع ذلك فهناك صور مشرقة لأزواج ضربوا أروع الأمثال في مساعدة الزوجة على الدعوة وطلب العلم، فيأخذ الأولاد معه لتحضر الأم درساً أو محاضرة.. أو تلقي هي محاضرة.. وآخر يصر على زوجته في مواصلة الدراسة، وربما سهر معها الليل في الامتحان ليساعدها بطفلها الصغير.
ومن هنا أقول: لو وضع الزوج والزوجة نصب أعينهما أنهما يتساعدان معاً لخدمة دين الله وإلى ما يوصلهما لرضاه.. وليس لمكانة علمية أو اجتماعية أو نيل شهرة أو شهادة... لتسامت النفوس وارتقت الآمال والأهداف لتصل إلى جنة عرضها السموات والأرض.
ومنها تقدير ظروف المرأة العاملة: فهناك من تعمل لهدف سام وهمة عالية في الدعوة إلى الله تعالى، وإصلاح واقع النساء.. وهناك من تعمل لتساعد زوجها على لوازم الحياة، وهناك من اشترطت ذلك في النكاح ومع ذلك هي تسدد وتقارب لكي لا تخل بإحدى الأمانتين.. ومن هنا لابد من بعض المراعاة والتنازلات من طرف الزوج.. ليحتسب، ويغض الطرف عن بعض التقصير، فقد يكون في عملها مصلحة في شغل فراغها في أمور نافعة وبعمل مباح بدلاً من صرفه في أمور محرمة يجني عاقبتها هو وأولاده، لو كانت لا تعمل خارج المنزل، وهي لا تعمل داخله أيضاً لوجود الخادمات والمربيات، فلم يبق لكثير سوى الفراغ ومضيعة الوقت.
أسس مهمة
وأخيراً أختم بوضع بعض الأسس المهمة في ترسيخ قاعدة (مراعاة الظروف والأحوال) لنصل إلى بر الأمان بإذن الله تعالى وتوفيقه ومنها:
1 ـ الشعور بالمسؤولية تجاه الآخر، فما يعد نجاحاً لأحدهما هو نجاح للآخر، وكذلك إخفاق أحدهما هو إخفاق للآخر، وبالتالي يتحد الجسدان والروحان ليصيرا جسدا واحداً وروحاً واحداً لا فرق بينهما، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر.
2 ـ التحمل والصبر فسفينة الحياة لا تسير إلا بهما.
3 ـ كظم الغيظ وامتصاص الغضب بالكلمة الحانية واللمسة الرقيقة التي تزيل متاعب القلب وتجلي الهم وتنسي متاعب الحياة.
4 ـ فهم معنى القوامة للرجل بمعناها الصحيح فهي مسؤولية وقيادة وتربية وترشيد وهي في الوقت ذاته قدوة حسنة وليست أوامر صارمة وطاعة عمياء.
5 ـ تحقيق السكن النفسي عند المرأة، فالزوج يبحث عند زوجته عن السكن النفسي والألفة وراحة البال فلتكن له صدراً حانياً وقلباً عطوفاً وليجد عندها طاعة في غير معصية الله (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) البقرة 187.
6 ـ تحقيق الرفق في جميع الأمور ففي الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا أراد الله عز وجل بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق) رواه الإمام أحمد في مسنده.
7 ـ فهم النفسيات، وكيفية التعامل معها.. ومعالجة أمراضها وعللها، ففهم كل من الزوجين لطبيعة الآخر يجعل التعامل معه سهلاً والدخول إلى قلبه ميسوراً.
8 ـ التنازل عن الأهواء والرغبات.. وهو في جانب المرأة أهم وآكد لتصل إلى قلب زوجها فتملكه بعد ذلك.. ولا تستعجل الثمار فقد تأتي ولو بعد حين.
9 ـ الاحترام المتبادل بين الزوجين حتى مع وجود الخلافات..
10 ـ تعزيز الدور الإيجابي عند كل طرف وحصر المحاسن والغض عن العيوب ومغفرة الزلات والتغافل عنها فهذا قارب نجاة بإذن الله لكثير من المشكلات.
أسأل الله تعالى أن يمن علينا وعليكم بالسعادة في الدنيا والآخرة، وأن يقينا جميعاً شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ويثبتنا على الحق وعلى صراطه المستقيم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.