في ظل التواصل المعرفي المنفتح تتلقف العقول الأفكار الوافدة الغريبة، وسرعان ما تتعايش هذه العقول مع هذه الأفكار والرؤى. وليس العجيب عن ورود الأفكار إلى عقول الناس ولكن العجب هو قبول الناس لهذه الأفكار الغريبة الشاذة، والتواؤم الذي يحدث بمجرد الاتصال.
كنا بالأمس القريب نرى أن مجرد الخواطر أو جريان الأوهام حول حمأ هذه الأفكار الغريبة يعتبر
جريمة لا تغتفر. واليوم نرى أن هذه الأفكار والرؤى هي من البديهيات التي لا يجادل فيها إنسان، وأنها من مسلمات العقول السليمة.كيف حدث هذا التحول؟ هل التغير حدث في البديهيات والمسلمات أم حدث في عقولنا؟ هل كانت عقولنا تنكر البديهيات ؟ أليست مبادئنا هي من الثوابت والتي هي في الميزان العقلي أشد ثقلاً من البديهيات؛ إذ أن البديهيات تتغير من شخص لآخر.
إنها إشكالية مقلقة، نواجهها كل يوم، صراع قوي دائم بين المبادئ والقيم وبين الدخيل على هذه القيم. فهذا الدخيل يكاد يزعزع قيم الناس وما يحملونه من مصداقية المبادئ، فالآخر يملك قوة تأثيرية، فهو يسيطر على كثير من المنافذ الإعلامية والتي عبرها يتسلل إلى مشاعر وأحاسيس الناس فيعبث فيها كيف يشاء، ويقودها حيثما أراد، مستغلاً جهل الناس بحقيقة الأمور وانبهارهم بزيف الحضارة الغربية.
والخلط يحدث عندما يجعل هناك تلازم بين صحة القيمة والرمز. فالشخص البسيط يحكم على صحة القيمة ومصداقيتها إذا رأى لها مثالاً واقعاً في الناس، وأكثر الناس يعجزون أن يحكموا على القيمة مجردة من المثال ومن المؤسف حقاً أن يرتبط في أفهام الناس القيمة بالشخص، فارتباط المبدأ والقيمة بالشخص من أسباب ضعف تعلق الناس بهذه القيم الرفيعة . ولهذا لا بد أن يكون هناك فصل في أذهاننا بين المبدأ والشخص، والقيمة والرمز، فالشخوص متغيرة والمبادئ ثابتة، والرموز تنتهي والقيم باقية مستمرة.
إن المساواة بين القيمة والشخصية الرمزية إسقاط لهذه القيمة . نعم، إننا ندرك أن هذه الشخصية برزت وتميزت بهذه المبادئ التي تحملها وتؤمن بها؛ ولكن قد يحدث هناك انفصال بين هذه الشخصية وما تحمله من مبدأ لطبيعة الشخصية الإنسانية التي فطرها الله عليها من ضعف وعجز وخور، فهل نحمّل هذه المبادئ والقيم هذا الضعف والخور البشري، إن فعلنا ذلك فقد اقترفنا خطيئة مركبة في حق المبادئ وحق الشخصية.
وتبنّي مجموعة ما لقيمة أو فكرة ما لا يعطي هذه القيمة الصلاحية لمجرد أن لها أتباعاً كثر، فالأكثرية ليست معياراً للحكم على صحة المبدأ ) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ( (يوسف:103) فالجمهرة والغوغائية لا تغير من حقائق الأمور، وإنما تستمد المبادئ صحتها من ذاتها، فتوازنها وتكاملها وتناسقها وانسجامها مع الفطرة وعدم اعتراضها أو تصادمها مع شريعة ربها يمنحها القيمة والاعتبار، فاتخاذها مبدأ ينبني على هذا الأساس.
لذلك فالمبادئ الزائفة ليس لها قيمة فهي بُنيت على أساس جرف هار، إذ تستمد قيمتها من عقول محدودة البعد في الزمان والمكان، متلوثة بأساطير موروثة مشوهة في اعتقادها. ومع إنه لابد أن يكون لكل أمة رصيداً من القيم الإنسانية الرفيعة تستند عليها من أجل البقاء والرقي الإنساني، وبقدر ما تتمسك هذه الأمم بالقيم الصحيحة التي تملكها بقدر ما يكون نموها وتطورها.
والصدمة الحضارة التي تعيشها الأمة ولدت كثير من الأسئلة: هل قيمنا تتناسب مع العصر؟ هل تطبيقنا للقيم صحيح؟ هل الخلل في تفكيرنا أم في قيمنا؟ هل القيم الغربية أصدق وأبلغ من قيمنا ومبادئنا؟ هل الغرب قادر على تقرير قيم جديدة للعالم؟ وغيرها من الأسئلة الكثيرة التي تنم عن جهل بقيمنا وانبهار بالتقدم الصناعي الغربي وانهزام نفسي بسبب التخلف الإسلامي فانعكس كل ذلك على تصوراتنا ومفاهيمنا وهذا أكبر انتصار يحققه الغرب، وهو أن يشعرك بهزلية مبادئك وعجزها عن مواجهة الحياة المعاصرة بفعالية مما يجعلك تابعاً ذليلاً لفكر ومعتقدات الغرب. وهذا ما نشاهد أثره في فئات عريضة، فالتصور العقدي الصحيح وفضائل الأخلاق ومحاسن العادات أصابها كثير من التشوهات في مفاهيم كثير من الناس. وأصبحت القيم الغربية التي لا تنسجم مع فطرتنا وعقيدتنا تحل محلها، فالفردية والأنانية وحب المادة والركض وراء الشهوات والتخلي عن المعاني الإنسانية أصبحت عاملاً مشتركاً بين فئات المجتمع.
إن العجز الذي نعيشه ليس بسبب خلل في قيمنا وتصورتنا؛ وإنما هو في حالة الانفصام التي نعيشها مع قيمنا، فالتطبيق العملي للقيم التي نملكها يكاد يكون معدوماً. والخروج من هذا المأزق المأزوم هو ليس بالتخلي والانفلات من عقيدتنا وقيمنا، وإنما بتنقيتها من الشوائب وتصفيتها مما أصابها من تصورات دخيلة، فوجودنا الإيجابي الفعال لا يتم إلا بالاستناد على عقيدتنا وثوابتنا وإن حدث تخلف وانحطاط فهو فينا وليس في ديننا فلا تلازم بين التطبيق والمبدأ